كيف ينظر البحرينيون إلى أنفسهم؟ علم واحد يكفي لفتق المخبوء
الوسط - غسان الشهابي
عندما لعب منتخب البحرين لكرة القدم مع نظيره اليمني في "خليجي 16"، وكان منتخبنا حينذاك في كامل عافيته، فدك المرمى اليمني بالأربعة، كنت أتصل بصديق بحريني من أصل يمني طالبا منه خدمة، فسألته ضاحكا: "من تشجع؟"، فقال: "وهل هذا يحتاج إلى سؤال؟"، فحولت نبرة الضحك إلى شيء من الجد وأعدت عليه السؤال: "من تشجع؟"، فقال من دون تلجلج: "طبعا المنتخب اليمني.
..".لم تصدمني هذه الإجابة ولم أتوقف عندها طويلا، الأمر يبدو طبيعيا على أكثر من صعيد، فلو قيس الأمر على البحرينيين الذين حصلوا
حديثا على الجنسية القطرية أو الإماراتية، أو البريطانية حتى، وأقيمت مباراة بين منتخب وطنهم المستجد الذي يحملون أوراقه، ومنتخب وطنهم الأصيل الذي لم يفتحوا أعينهم إلا عليه، وعلى علمه الذي تسبح دمعة لا إرادية في موج العين كلما رفرف خفاقا مع أنه لا يعدو قماشا، فإلى أين سينتصر القلب؟ إلى الأوراق الثبوتية، أم إلى الهوية الراسخة التي لا تمحى ولو تطاول الزمن؟
تبدو المسألة واضحة بالنسبة إلى الكثير من الحالات من البحرينيين "ويقينا غيرهم" من الذين تركوا بلادهم أملا في عيش أفضل وأكثر كرامة واعتزازا وإطلاقا لقدراتهم، فذهبوا إلى بلاد أخرى، تقرب أو تبعد من وطنهم، ولدواعي العيش الكريم هناك، طوحوا بأوراقهم الثبوتية البحرينية واختاروا أوراق تلك الدول، اختاروها ليجد أبناؤهم مقاعد في مدارس تلك الدول. اختاروها لا كرها أو حقدا على بلادهم الأم، ولكن لأنهم يريدون الحصول على وظيفة وخدمات وتأمين صحي وسكن كما هم مواطنو تلك الدول، وربما اختاروها كي يغيظوا من يريد منعهم من العودة إلى وطنهم في وقت مضى كان فيه المبعدون البحرينيون - الذين لايزالون يتمسكون بأوراقهم الثبوتية الأصلية - يكفيهم أن يصلوا إلى مطار البحرين لتكتحل أعينهم بنخيل سماهيج وببحر قلالي وبـ "حظور" الحد، وببعض أطراف المحرق وجزء يسير من المنامة، ليتم إرجاعهم بعد ساعات إلى حيث أتوا.
المسألة تبدو سهلة لأننا نرى كم هم مهمومون أولئك البحرينيو الهوى، المتعددو الجنسيات، وهم في غرباتهم لا يمكنهم إلا أن ينشدوا إلى الهم المحلي، ويكتبوا فيه، ويزعقوا، ويفلسفوا، ويتهموا، ويوطنوا ويخونوا، وربما جانبوا الصواب كما يجانبه أهلوهم في الداخل، ولكنهم أبدا في مكانهم من قلب بلادهم، أو بلادهم في مكانها من قلوبهم، ولم يتهمهم أحد في تلك الدول - التي انتموا إليها بالأوراق - أنهم ينحازون ويميلون إلى دولهم الأصلية بما يعد خيانة للبلد الذي احتضنهم ومنحهم جواز سفره.
فعندما يقول أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة": "تتألف هوية كل إنسان من جملة عناصر لا تقتصر على تلك الواردة في السجلات الرسمية"، فإنه يضع الأمر في نصابه، فهناك بون شاسع بين الجنسية والهوية، يحدث كثيرا أن يلتقيا، كأن يكون البحريني الهوية حاملا الجنسية البحرينية، ولكن يحدث أيضا أن يكون مغربي الهوية يحمل الجنسية الفرنسية، أو لبناني الهوية ذا جنسية أميركية، وفي كل هذه الحالات، تبقى الهوية واضحة وقائمة ولها تأثير الثبات والقوة والتجذر، بل و"القتل" في أحيان كثيرة - كما يقول معلوف - اعتمادا على تاريخ الحروب على الهويات، والقتل على الهويات أيضا.
غالبا ما ندعي - هنا في البحرين - أننا مجتمع يتألف من فسيفساء متعددة الألوان، بتعدد الأعراق والأصول والمذاهب والقبليات، ومن المتوقع أن يكون مجتمع كهذا - لا تفصله الجغرافيا كما يحدث في دول أكبر - متمتعا بقدر أكبر من التفهم والقدرة على صوغ يومياته وفق منظور التعايش السلمي والمنفتح والمتقبل للتعددية بكل أشكالها، ولكن لو نظرنا إلى الأمر من الناحية الواقعية، من ناحية كم نحن نعامل هوياتنا الخاصة بنوع من القداسة، ونرفض أن يتعامل الآخرون مع هوياتهم على المحك نفسه، كم نشعر أنه من حقنا أن نعبر عن هوياتنا بحرية وبتواقح أحيانا في المبالغة في تقديسها على حساب الهوية الجامعة، وكم تضيق صدورنا بتعبير الآخرين عن هوياتهم الخاصة حتى في مجالاتها الصغرى، في انتماءاتها الثقافية والجهوية والأيدولوجية والإثنية والقبلية والمذهبية والدينية وغيرها من مكونات الهوية، لو دققنا في الأمر لانكشفت أمامنا مساحة من عدم التسامح تنعكس في حدودها الدنيا على ألقاب سيئة - تصل إلى البذاءة أحيانا - يتبادلها الناس في شأن "الآخر"، وتنعكس في حدود أخرى على نيل الحقوق الأساسية للمواطن.
بالعودة إلى ما حدث من قلة شبابية منفلتة من مشجعي نادي المنامة، التي رفعت علم إيران في مباراة من ضمن مباريات الدوري، فإن هذه الفئة - والتي بدت في الصورة لمجموعة من المراهقين - يقينا ما كانت تريد إلا الوصول إلى النتيجة التي يصبو إليها كثيرون ممن هم في سنهم، وهي: شد الانتباه ولفت الأنظار، وذلك بالمغايرة، وإحداث الصدمة لمن يرى هذه الإشارة، وربما لو تم رفع العلم المكسيكي - مثلا - لأخذ الأمر وكأنه مزحة، ولو رفع العلم الإماراتي أو السعودي، لقرأ الأمر على أنه تجسيد الوحدة الخليجية وأن لا فرق بين أبناء هذا البلد أو ذاك، ولكن لحساسيات متعددة معلومة ومفهومة من قبل المجتمع لوضعية النادي ورمزية علم هذه الدولة تحديدا، كان رد فعل النادي صاخبا بعض الشيء، مبالغا في نفي الأمر وتعقب مراهقي المدرجات أولئك.
المتعارف عليه عالميا - ربما - هو أن الجيلين الأولين من المهاجرين يظلون مرتبطين قلبيا ببلدهم الأم، الجيل الأول لأنه عاش هناك وربما هاجر مرغما، والجيل الثاني لأنه ورث هذا الحنين الطازج من سابقه، ومن بعد ذلك تبدأ هذه العملية في التفكك والتراخي جيلا بعد آخر، حتى يذوب الناس في بعضهم، ولا أحد يعود يعلم من أمر بلد أجداده الأم شيئا، بل ويصبح الحنين بالعودة ضربا من الخيال والمبالغة الرومانسية.
هذا الأمر يعرفه كل من يزور الجمعيات العربية في الولايات المتحدة، أو يطوف ببعض الأحياء العربية في فرنسا، ليرى الفوارق جلية ما بين الأجيال التي لاتزال تتمسك بأهداب الوطن الأم، وما لحقها من أجيال أخرى من الصغار الذين لا يكادون ينطقون كليمات قليلة من العربية، بل الكثير من هذه الأجيال الجديدة تتحين الفرصة لتنفك من أسر طوق الهوية الذي ألزم آباؤهم أنفسهم به، ويريدون أن يلبسوه قسرا لأبنائهم الذين شكلوا هوياتهم الخاصة بالاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، متآلفين مع أنفسهم ومع واقعهم، ومع ذلك، فإن الدول القائمة على الهجرات المتلاحقة، لاتزال تفتخر بأنها أمم متنوعة الأعراق والثقافات، وأنها تنظر باعتزاز إلى أن مجتمعها يتألف من خليط ثقافي وعرقي، له دوائره الخاصة التي تمنحه الاستمرار في تداول لغته الخاصة، وطبائعه واحتفالاته وأعياده، بما لا يؤثر على وحدة الأمة في حدها الأدنى، كأن تنادي قومية ما بالاستقلال بمنطقتها، أو تأليف نظام داخلي خاص بها لا علاقة له بالنظام العام، وهنا تتجلى الأحياء والمدن التي تحمل أسماء البلدان أو الأعراق التي أتت منها، وتكون بمثابة معلم من معالم المدن الكبرى في تلك الدول، كالحي الصيني الموجود في أكثر من دولة، وفي أكثر من منطقة في الدولة نفسها.
وفي المقابل، فإن الحال لدينا يشوبها التشوش، ففي الوقت الذي يطالب فيه المجتمع عموما من المتجنس أن يكون بحرينيا خالصا، لسانا وعادات وملبسا ومأكلا وفي موتيفات الحياة العامة في أصغر تفاصيلها، وإلا ستكون من الخسارة منح الجنسية لمن لا يقوم بأمرها خير قيام؛ في الوقت نفسه، فإن صفة "المتجنس" "بمعناها اللاواعي الدوني التفسير، المرتبط لا شعوريا بالوصولية والتملق واغتصاب حقوق الآخر" تطارده لجيلين على الأقل ريثما يتخلص من غبار وبقية جذور البلد الأم، فلا يسمح له بأن يعبر عن هوياته الخاصة لأن ذلك من غير اللائق بمن "تشرف" بحمل جنسية هذا البلد.
تظل المواقف السياسية المتورمة محليا بشأن التجنيس ما إذا كان قد جرى على أسس قانونية، أو من وراء حجاب، تقود النظرة من حامل الجنسية البحرينية، ليوضع على المفرزة، ويمكن لمن أراد أن يستعيد الكثير من التعبيرات اللفظية أو شكل الوجوه عند الحديث عن المتجنسين لتفضح الكثير من معاني تعاطينا مع الآخر.